كيف نقرأ الحنين ؟
تشكل المشاعر جزء كبير من حياتنا، هي عالمنا الداخلي تجاه كل ما نتعرض له في الخارج من مواقف وأحداث. وهي وسيلة لاتخاذ القرارات والتفاعل مع الحياة من حولنا. فهمنا لمشاعرنا، يساعدنا في فهم أنفسنا وتقبلها أكثر، وبالتالي نستطيع فهم الناس من حولنا وتقبلهم كذلك.
أحد هذه المشاعر الإنسانية، شعور الحنين. ذلك الشعور الدافئ الممزوج بالحزن تجاه لحظة أو مكان، أو حتى شخص من الماضي. نحن الكبار نفهم هذا الشعور جيدًا، فلنا ذكريات، ومغامرات كثيرة قمنا بها في الماضي. والبعض منا لا يزال عالقاً هناك، ويبحث عن حل ليعيش اللحظة والحاضر. أما أطفالنا فهم يعيشون اللحظة حقيقةً، ليس لهم ماضٍ طويل، ولا يحملون هم المستقبل. فكيف سيفهمون شعورًا عميقًا ومعقدًا مثل الحنين؟!
سنعرف ذلك إذا قرأنا، قصة الأطفال الفائزة بجائزة اتصالات عام 2018 بعنوان الحنين للكاتبة عائشة الحارثي، ورسوم حسان مناصرة. من دار أشجار.
الغلاف يحتوي ثلاث عناصر فقط. وهي أوراق شجر العنب الخضراء، والطفل ذو القبعة الحمراء والطائر الباهت بين الأغصان في الخلفية. إن التكوين الفني بسيط جدًا، وغير مشتت للقارئ الصغير، لكنه عميق ومليء بالمشاعر لو تأملناه قليلًا.
أوراق شجر العنب موزعة وبعضها فوق بعض يوحى بالعمق في الصورة، كما أن تشابك أغصانها قد يرمز إلى تشابك الذكريات وتعقيدها في عقل الإنسان. أيضًا استخدام درجات الأخضر والألوان الطبيعية لبشرة الطفل أعطى تكاملًا لونيًا، وإحساسًا بالألفة والأمان. والإضاءة الجزئية على وجه الطفل، تخبرنا أن الحنين شعور داخلي لا يكون مرئيًا للعالم. والطائر المحبوس بين الأغصان ما هو إلا رغبة في التحرر من هذا الشعور. ثم عيني الطفل، وهي تنظران نحونا، تقول أن النظر المباشر وسيلة فعالة للتواصل مع المشاعر. وأخيرًا العنوان، مكتوبًا بالأبيض دلالة على نقاء وصفاء هذا الشعور الإنساني الجميل.. الحنين.
شارك هذه الأفكار مع طفلك، وتناقشوا في الأفكار والرموز، هذا يعزز الخيال والثقافة البصرية والرمزية لديه. أحيانًا تكون أغلفة الكتب لوحات فنية رائعة تستحق التأمل قبل البداية في المحتوى.
الحنين يظهر مع الوقت ولابد من استيعاب عنصر الزمن ووصفه جيدًا قبل الدخول في موضوع الحنين. عبرت الكاتبة عن الزمن من خلال رحلة طويلة وشاقة. وهذه طريقة مناسبة للطفل في تكوين صورة الزمن في مخيلته. لنأخذ مثلاُ عبارة "أيامًا وليالي" نجد فيها تناوب الزمن بين الليل والنهار، ونشعر باستمرارية الزمن. ثم بعدها ربطت الزمن بالمكان في "قطع بحارًا هائجة، وصحارى قاحلة" فصار الزمن شعور حقيقي وملموس في هذه المساحات الجغرافية الواسعة. كما أننا نشعر بالمشقة والجهد في كلمات مثل "هائجة" أو "قاحلة". بطل القصة حسن، عانى كثيرًا في سفره الطويل، وواجه تحديات وصراعات متعددة حتى يصل لهدفه. ثم أخيرًا "حتى وصل إلى آخر العالم." هنا ربما يتساءل الطفل، عن ماهية نهاية العالم، وكيف يكون، وماذا هناك.. وهذه فرصة للتخيل والخوض في نقاش ممتع وخيالي معه.
وبما أن القصة مناسبة لعُمر 8 سنوات فما فوق، في هذا العمر يفهم الطفل التعبيرات المجازية عادةً، لذلك ربما نقول أن لكل إنسان عالم خاص به، وحسن وصل لنهاية عالمه الخاص، وهذا يعني أنه حقق هدفه الذي كان يريده من الرحلة. وعندما يصل الإنسان لهدفه، عليه أن يتوقف، لذلك عبرت الكاتبة: "كان يجب عليه أن يتوقف" ويقيم رحلته، ويدرس نجاحاته وأخطاءه، ثم يفكر في رحلته القادمة وهدفه الجديد الذي يطمح له.
بطل قصتنا حسن، كان له هدفين واضحين في القصة. الأول هو الاكتشاف والسفر لرؤية العالم، ويحركه شعور الفضول. والهدف الثاني هو العودة للوطن، والاستقرار بين العائلة والأصدقاء، ويحركه شعور الحنين. كلها مشاعر إنسانية رائعة وجميلة، وطبعًا الحنين كان هو موضوع القصة.
صوّر الفنان الحنين كجسد لونه أزرق يشبه بطل القصة حسن. وهذه إشارة بأن الحنين شعور داخلي وموجود عندنا جميعًا. لكنه شعور عميق ومتطور، مثل الأمل أو اليأس أو الاطمئنان وربما لا يفهمه الطفل. لكن نشرح له أن الحنين شعور مثل الغضب، لأنه من المشاعر الأولى التي يفهمها الطفل. عندما نكون غاضبين، يجب ننصت لهذا الشعور، ونفهم لماذا نحن غاضبون أليس كذلك؟ الحنين، ليس مختلفًا كثيرًا. إذا زارنا يومًا ما، يجب أن نفهمه وننصت له حتى يهدأ، ونسمع ما يطلبه منا.
المشاعر الجديدة علينا، نشعر بقوتها وربما لا نستطيع التعامل معها جيدًا في أول زيارة، لذلك كان الحنين عملاقًا وضخمًا جدًا عندما زار حسن في بيته، ومع مرور الوقت وقرار حسن بالعودة بدأ حجمه يضمحل ويصبح أصغر فأصغر، حتى اختفى تمامًا عند وصول حسن للوطن. لكن هذا لا يعني أن الحنين لن يزور حسن في مرحلة أخرى من حياته. لأنه شعور يأتي ويذهب مثل الغضب والحزن، وفي وقت ما في المستقبل عندما يكون حسن رجلًا راشدًا، سيزوره الحنين من جديد، وسيكون حسن مستعدًا له، متقبلًا له، ويتعامل معه بشكل أفضل.
العديد من المفردات اللغوية، والرسوم الرمزية المثرية في هذه القصة. ولا شك بأن القارئ الصغير والكبير على حد سواء سيتفاعل مع رحلة حسن، وصراعه مع الحنين. إلا أنني كنتُ أرجو لو كان هناك منفعة واضحة ومذكورة في القصة من سفر حسن الطويل. السفر ممتع ومفيد، ويثري روح المغامرة والاكتشاف عند الإنسان ويعلمنا كثيرًا عن الثقافات والشعوب. عندما عاد حسن إلى الوطن، مؤكد أنه تعلم شيئًا ما من سفره، وقام بتطبيقه في وطنه. عندما تقرأ هذه القصة مع طفلك، اعطه بعض الأمثلة التي يمكن أن نتعلمها من السفر، لأن هذا الجزء غير مذكور في الكتاب. ولا نريد أن يعتقد أطفالنا أن ليس هناك فائدة مرجوة من السفر سوى العناء والحزن والوحدة.
قصة الحنين، هي مغامرة عبر الزمان، وانعكاس رغبتنا العميقة للعودة إلى ما كان. إلى دفء الماضي الذي أصبح بعيدًا. رحلة تأخذنا للغوص في مشاعرنا وعالمنا الداخلي المعقد. ربما هذه هي الرمزية الحقيقية من كل هذه المغامرة. أن نعرف أن الحنين هو معنا دائمًا، الحنين للطفولة وذكريات اللعب والركض والضحك.. نقطة البداية التي صنعت كل شيء.
. . .